تشبيهُ التمثيلِ: أبلغُ من غيره، لما في وجههِ من التفصيلِ الذي يحتاجُ إلى إمعانِ فكرٍ، وتدقيقِ نظرٍ، وهو أعظمُ أثراً في المعاني: يرفعُ قدرها، ويضاعفُ قواها في تحريكِ النفوس لها، فإنْ كان مدحاً كان أوقعَ، أو ذمًّا كان أوجعَ، أو بُرهانا كان أسطعَ، ومن ثَمَّ يحتاجُ إلى كدِّ الذهنِ في فهمِه، لاستخراجِ الصورةِ المنتزعَة من أمورٍ متعدِّدةٍ، حسِّيةٍ كانتْ أو غيرَ حسِّيةٍ، لتكوِّنَ (وجهَ الشبهِ).
كقول الشاعر [1]:
ولاحتِ الشمسُ تحكي عند مطلعِها -- مرِآةَ تبرٍ بدتْ في كفِّ مرتعِشِ
فمثّلَ الشمسَ حين تطلُع حمراءً لامعةً مضطربةً، بمرآةٍ من ذهبٍ تضطربُ في كفِّ ترتعِشُ.
وتشبيهُ التمثيلِ نوعانِ:
- الأولُ: ما كانَ ظاهرَ الأداةِ، نحو قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) [الجمعة/5].
فالمشبَّهُ: همُ الذين حُمّلوا التوراةَ ولم يعقلوا ما بها.
والمشبَّهُ به (الحمارُ) الذي يحملُ الكتبَ النافعةَ، دونَ استفادتهِ منها.
والأداةُ الكافُ.
ووجهُ الشبَّهِ (الهيئةُ الحاصلةُ منَ التعبِ في حملِ النافعِ دونَ فائدةٍ.
- الثاني: ما كانَ خفيَّ الأداةِ: كقولكَ للذي يتردّدُ في الشيء بينَ أن يفعلَهُ، وألاّ يفعلَهُ (أراكَ تقدِّمُ رِجلاً وتُؤخِّرُ أخرَى)، إذِ الأصلُ أراكَ في ترددكَ مثلَ مَنْ يقدِّم ُرجلاً مرةً، ثم يؤخّرُها مرة ًأخرى، فالأداةُ محذوفةٌ، ووجهُ الشبهِ هيئةُ الإقدامِ والإحجامِ المصحوبينِ بالشَكَِّ.
مواقعُ تشبيهِ التمثيلِ:
لتشبيهِ التمثيلِ موقعانِ:
(1)- أنْ يكونَ في مفتتحِ الكلامِ، فيكونُ قياساً موضِّحاً، وبرهانا مصاحِباً، وهو كثيرٌ جدًّاً في القرآن، نحو قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ [البقرة/261]).
(2)- ما يجيءُ بعد تمامِ المعاني، لإيضاحِها وتقريرِها، فيُشبهُ البرهانَ الذي تثبتُ بهِ الدَّعوى، نحو قول الشاعر لبيد[2]:
وما المالُ والأَهْلوُنَ إلاّ وَدائِعٌ -- ولا بدَّ يوماً أَنْ تُرَدَّ الوَدائِعُ
ونحو قول الشاعر [3]:
لا ينزلُ المجدُ في منازلنا -- كالنّومِ ليسَ له مأوَى سوى المقَلُ
تأثيرُ تشبيهِ التمثيلِ في النفسِ:
إذا وقعَ التمثيلُ في صدر القولِ: بعثَ المعنى إلى النفسِ بوضوحٍ وجلاءٍ مؤيَّدٍ بالبرهانِ، ليقنعَ السامعَ، وإذا أتى بعد استيفاءِ المعاني كانَ:
(1)- إمَّا دليلاً على إمكانِها، كقول المتنبي [4]:
وما أنا مِنْهُمُ بالعَيشِ فيهم -- ولكنْ مَعدِنُ الذّهَبِ الرَّغامُ
لما ادَّعى أنه ليس منهم مع إقامتِه بينهم، وكان ذلك يكادُ يكونُ مستحيلاً في مجرى العادةِ، ضربَ لذلك المثلَ بالذهبِ، فإنَّ مقامَه في الترابِ، وهو أشرفُ منهُ.
(2)- وإمَّا تأييداً للمعنَى الثابتِ، نحو قول أبي العتاهية[5]:
تَرجو النجاةَ ولم تَسْلُكْ مَسالكهَا -- إنَّ السفينةََ لا تَجْري عَلَى اليَبَس
وعلةُ هذا: أنَّ النفسَ تأنسُ إذا أخرجتَها من خفيٍّ إلى جليٍّ، ومما تجهلُه إلى ما هيَ به أعلمُ.
ولذا تجدُ النفسُ منَ الأريحيةِ ما لا تقدُر قدرهُ، إذا سمعتْ قول أبي تمام [6]:
وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخْلِقٌ -- لدِيباجَتَيهِ فاغتَرِبْ تَتَجَدَّدِ
فإنّي رَأيتُ الشّمسَ زيدتْ مَحَبَّةً -- إلى النّاسِ أنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ بِسَرْمَدِ
وبعدُ:
فالتمثيلُ يكسبُ القولَ قوةً، فإنْ كان في المدح كانَ أهزَّ للعطفِ، وأنبلَ في النفسَ، وإنْ كان في الذمِّ كان وقعُه أشدَّ، وإنْ كان وعظاً كان أشفَى للصدرِ، وأبلغَ في التنبيهِ والزجرِ، وإنْ كان افتخاراً كان شأوهُ أبعدَ، كقول مَنْ وصفَ كأساً علاها الحبابُ [7]:
وكأنها وكأنَّ حاملَ كأسِها -- إذ قام يجلوها على الندماءِ
شمسُ الضُّحى رقصتْ فنقَّطَ وجهُها -- بدرُ الدُّجى بكواكبِ الجوزاءِ
[1]- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 140).
[2]- تاريخ النقد الأدبي عند العرب - (ج 1 / ص 326) والوساطة بين المتنبي وخصومه - (ج 1 / ص 58) والحماسة البصرية - (ج 1 / ص 121) ومحاضرات الأدباء - (ج 1 / ص 484) والشعر والشعراء - (ج 1 / ص 53) ولسان العرب - (ج 4 / ص 601) والإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 70).
[3]- جواهر البلاغة للهاشمي - (ج 1 / ص 11).
[4] - شرح ديوان المتنبي - (ج 1 / ص 304) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 49 / ص 104).
[5] - روضة العقلاء و نزهة الفضلاء - (ج 1 / ص 107) وزهر الآداب وثمر الألباب - (ج 1 / ص 343) والعقد الفريد - (ج 1 / ص 298).
[6] - روضة العقلاء و نزهة الفضلاء - (ج 1 / ص 40) والواضح في مشكلات شعر المتنبي - (ج 1 / ص 14) وزهر الأكم في الأمثال و الحكم - (ج 1 / ص 91) ورسائل الثعالبي - (ج 1 / ص 38) ومحاضرات الأدباء - (ج 1 / ص 344) والمحاسن والمساوئ - (ج 1 / ص 132) والبيان والتبيين - (ج 1 / ص 176).
[7] - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر - (ج 1 / ص 140) ونهاية الأرب في فنون الأدب - (ج 1 / ص 425).
قلت: ذكر هذا للتمثيل على المعنى المراد ، وإلا فبعضُ الشعر يمدح المنكرات كهذين البيتين اللذين يصفان مجلسا من مجالس الخمر والعياذ بالله، وهذا من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة والبداهة.
التسميات
علم البلاغة