هو أنْ يؤتَى بكلام يحتملُ معنيينِ متضادينِ على السواءِ كهجاءِ، ومديحِ، ودعاءٍ للمخاطبِ، أودعاء عليه، ليبلغَ القائلُ غرضَه بما لا يمسكُ عليه.
كقول بشار في خياط أعور اسمه عمرو [1]:
خَاطَ لي عمروٌ قباءْ ليتَ عينَيْهِِ سواءْ -- فإنَّ دعاءه لا يعلمُ، هل له أم عليه؟
و نحو قول الشاعر[2]:
كلما لاحَ وَجههُ بمكانٍ -- كثرت زحمةُ العيون عليهِ
وعليه قوله تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (46) سورة النساء.
قال الزمخشري [3]: قولهم: {غَيْرَ مُسْمَعٍ} حال من المخاطب، أي اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين، يحتمل الذمّ أي اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع.
قالوا ذلك اتكالاً على أنّ قولهم لا سمعت دعوة مستجابة أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه. ومعناه غير مسمع جواباً يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئاً. أو اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه، فسمعك عنه ناب.
ويجوز على هذا أن يكون (غير مسمع) مفعول اسمع، أي اسمع كلاماً غير مسمع إياك، لأن أذنك لا تعيه نبوًّا عنه.
ويحتمل المدح، أي اسمع غير مسمع مكروهاً، من قولك: أسمع فلان فلاناً إذا سبه.
وكذلك قولهم: {راعنا} يحتمل راعنا نكلمك، أي ارقبنا وانتظرنا. ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها، وهي: راعينا، فكانوا سخرية بالدين وهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } فتلا بها وتحريفاً، أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل، حيث يضعون (راعناً) موضع (انظرنا) و (غير مسمع) موضع: لا أسمعت مكروهاً. أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً. فإن قلت: كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا: سمعنا وعصينا؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان. ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء. ويجوز أن يقولوه فيما بينهم. ويجوز أن لا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به.
- الفرقُ بين التوريةِ والتوجيهِ [4]:
أ)- التوريةُ: تكونُ في لفظٍ واحدٍ. وأمَّا التوجيهُ: فيكونً في تركيبٍ.
ب)- التوريةُ: يقصدُ المتكلِّم بها معنًى واحداً: هو البعيد. والتوجيهُ: لا يترجحُ فيه أحدُ المعنيينِ على الآخرَ.
[1] - زهر الأكم في الأمثال و الحكم - (ج 1 / ص 237) والعقد الفريد - (ج 2 / ص 346) والإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 119) ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 294) وكتاب الكليات ـ لأبى البقاء الكفومى - (ج 1 / ص 25).
[2] - معاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 183).
[3] - الكشاف - (ج 1 / ص 415) و الإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 120).
وفي تفسير التحرير والتنوير - (ج 3 / ص 434): ومعنى {اسمع غير مُسمع} أنّهم يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم عند مراجعته في أمر الإسلام: اسمع منّا، ويعقّبون ذلك بقولهم: {غير مسمع} يوهمون أنّهم قصدوا الظاهر المتبادر من قولهم: غير مُسمع، أي غير مأمور بأن تسمع، في معنى قول العرب: (افعَلْ غيرَ مَأمُور).
وقيل معناه: غير مُسْمَع مَكروهاً، فلعلّ العرب كانوا يقولون: أسْمَعَه بمعنى سَبَّه. والحاصل أنّ هذه الكلمة كانت معروفة الإطلاق بين العرب في معنى الكرامة والتلطّف . إطلاقاً متعارفاً، ولكنّهم لمّا قالوها للرسول أرادوا بها معنى آخر انتحلوه لها من شيء يسمَح به تركيبها الوضعي، أي أن لا يسمع صوتاً من متكلّم لأن يصير أصمّ، أو أن لا يُستجاب دعاؤه. والذي دلّ على أنّهم أرادوا ذلك قوله بعد: {ولو أنهم قالوا} إلى قوله: {اسمع وانظرنا} فأزال لهم كلمة (غير مسمع).
وقصدُهم من إيراد كلام ذي وجهين أن يُرضوا الرسول والمؤمنين ويُرضوا أنفسهم بسوء نيتهم مع الرسول عليه السلام ويرضوا قومهم، فلا يجدوا عليهم حجّة.
وقولهم: {وراعنا} أتوا بلفظ ظاهره طلب المُراعاة ، أي الرفق ، والمراعاة مفاعلة مستعملة في المبالغة في الرعي على وجه الكناية الشائعة التي ساوت الأصل، ذلك لأنّ الرعي من لوازمه الرفقُ بالمرعِيّ، وطلب الخصب له ، ودفع العادية عنه.
وهم يريدون بـ {راعنا} كلمة في العبرانية تدلّ على ما تدلّ عليه كلمة الرعونة في العَربية، وقد روي أنّها كلمة {رَاعُونا} وأنّ معناها الرعونة فلعلّهم كانوا يأتون بها، يوهمون أنّهم يعظّمون النبي صلى الله عليه وسلم بضمير الجماعة، ويدلّ لذلك أنّ الله نهى المسلمين عن متابعتهم إيّاهم في ذلك اغتراراً فقال في سورة البقرة (104): {يأيها الذين آمنوا لا تَقولوا رَاعنا وقولوا انظُرْنا} واللَّيُّ أصله الانعطاف والانثناء، ومنه ولا تَلْوُون على أحد}، وهو يحتمل الحقيقة في كلتا الكلمتين: اللّي، والألسنة، أي أنّهم يثنون ألسنتهم ليكون الكلام مشبهاً لغتين بأن يشبعوا حركات، أو يقصروا مُشْبَعات، أو يفخّموا مرقّقا، أو يرقّقوا مفخما، ليعطي اللفظ في السمع صورة تشبِه صورة كلمة أخرى، فإنّه قد تخرج كلمة من زنة إلى زنة، ومن لغة إلى لغة بمثل هذا.
ويحتمل أن يراد بلفظ (الليّ) مجازُه، وبـ (الألسنة ) مجازه: فالليّ بمعنى تغيير الكلمة، والألسنة مجاز على الكلام، أي يأتون في كلامهم بما هو غير متمحّض لمعنى الخير.
وانتصب «ليّاً» على المفعول المطلق ل {يقولون}، لأنّ الليّ كيفية من كيفيات القَول.
وانتصب {طعناً في الدين} على المفعول لأجله، فهو من عطف بعض المفاعيل على بعض آخر، ولا ضير فيه، ولك أن تجعلهما معاً مفعولين مطلقين أو مفعولين لأجلهما، وإنما كان قولهم (طعناً في الدين)، لأنّهم أضمروا في كلامهم قصداً خبيثاً فكانوا يقولون لإخوانهم، ومن يليهم من حديثي العهد بالإيمان: لو كان محمّد رسولاً لعلم ما أردنا بقولنا، فلذلك فضحهم الله بهذه الآية ونظائرها.
وقوله: {ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا} أي لو قالوا ما هو قبول للإسلام لكان خيراً.
وقوله: {سمعنا وأطعنا} يشبه أنّه ممّا جرى مجرى المثل بقول من أمر بشيء وامتثله «سَمْعٌ وطاعة»، أي شأني سمع وطاعة، وهو ممّا التزم فيه حذف المبتدأ لأنّه جرى مجرى المثل، وسيجيء في سورة النور (51) قولُه تعالى: {إنّما كان قولَ المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} وقوله: وأقوم تفضيل مشتقّ من القيام الذي هو بمعنى الوضوح والظهور، كقولهم: قام الدليلُ على كذا، وقامت حجّة فلان. وإنّما كان أقومَ لأنّه دالّ على معنى لا احتمال فيه، بخلاف قولهم.
والاستدراك في قوله: {ولكن لعنهم الله بكفرهم} ناشئ عن قوله: {لكان خيراً لهم}، أي ولكن أثر اللَّعْنَة حاق بهم فحرموا ما هو خير فلا ترشَحُ نفوسهم إلاّ بآثار ما هو كمين فيها من فعل سيّىءٍ وقول بَذَاءٍ لا يستطيعون صرف أنفسهم عن ذلك.
[4] - جواهر البلاغة للهاشمي - (ج 1 / ص 16).
التسميات
علم البلاغة