التنازع.. أن يَتوجهَ عاملان متقدمان أو أكثر إلى معمول واحد متأخر أو أكثر

التَّنازُعُ: أن يَتوجهَ عاملانِ مُتقدمانِ، أو أكثرُ، إلى معمول واحدٍ مُتأخرٍ أو أكثر، كقوله تعالى: {آتوني أُفرغْ عليه قِطراً}.

(آتوا: فعل أمر يتعدى الى مفعولين. ومفعوله الأول هو الياء، ضميرُ المتكلم. وهو يطلب "قطراً" ليكون مفعوله الثاني.و "أفرغ": فعل مضارع متعد الى مفعول واحد. وهو يطلب "قطراً" ليكون ذلك المفعول. فأنت ترى أنّ "قطراً" قد تنازعه عاملانِ، كلاهما يطلبه ليكون مفعولاً به له، لأنّ التقدير: {آتوني قطراً أفرغه عليه}. وهذا هو معنى التنازع).

ولكَ أن تُعمِلَ في الاسم المذكور أيَّ العاملَينِ شئتَ. فإن أعملت الثاني فَلقُربهِ، وإن أعملت الأولَ فلسبَقهِ.

فإن أَعملتَ الأوَّلَ في الظاهرِ أَعملتَ الثانيَ في ضميرهِ، مرفوعاً كان أم غيرَهُ، نحو: "قامَ، وقعدا، أخواك* اجتهدَ، فأكرمتُهما، أخواك*وقفَ، فسلمتُ عليهما، أخواك* أكرمتُ، فَسُرّا، أخَويْكَ* أكرمتُ، فشكرَ لي، خالداً".

ومن النُّحاة من أجاز حذفه، إن كان غيرَ ضميرِ رفعٍ، لأنهُ فضلةٌ، وعليه قول الشاعر:
بِعُكاظَ يُعْشي النَّاظِريـ -- ـنَ، إذا هُمُ لَمَحُوا، شُعاعُهْ

وأن أعملتَ الثانيَ في الظاهر، أعملتَ الأولَ في ضميرهِ، إن كان مرفوعاً نحو: "قاما، وقعدَ أخواك* اجتهدا، فأكرمتُ أخوَيْك* وَقَفا، فسَلَّمتُ على أخويكَ".

ومنه قولُ الشاعر:
جَفَوْني، ولم أَجفُ الأَخِلاَّءَ، إِنَّني -- لِغَيْرِ جَميلٍ مِنْ خَلِيلَي مُهْمِلُ

وإن كان ضميرُهُ غير مرفوعٍ حذفتَهُ، نحو: "اكرمتُ، فَسُرَّ أخواك* أكرمتُ، فشكرَ لي خالدٌ* أكرمتُ، وأكرَمني سعيدٌ* مررتُ، ومَرَّ بي علىُّ". ولا يقال: "أكرمتهما، فَسُرَّ أخواكَ* أكرمتُهُ، فشكرَ لي خالد* أكرمتُهُ، وأكرمني سعيدٌ* مررتُ به، ومرَّ بي عليَّ".

وأمّا قول الشاعر:
إذا كُنْتَ تُرْضِيهِ، وَيُرْضيكَ صاحبٌ -- جِهاراً، فَكُنْ في الْغَيْبِ أَحفَظَ للعَهْدِ
*وَأَلْغِ أَحاديثَ الْوُشاة، فَقَلَّما -- يُحاوِلُ واشٍ غَيْرَ هِجْرانِ ذِي وُدِّ

بإظهار الضمير المنصوب في "تُرضيه"، فضرورةٌ لا يحسُنُ ارتكابها عند الجمهور. وكان حقُّهُ ان يقول: "إذا كنت تُرضي، ويُرضيكَ صاحبٌ". وأجازَ ذلك بعضُ مُحَقّقي النّحاة.

 (وذهب الكسائيّ ومن تابعه الى أنه أذا اعملتَ الثاني في الظاهر، لم تُضمر الفاعلَ في الاول بل يكون فاعله محذوفاً لدلالة ما بعده عليه (لانه يُجيز حذف الفاعل اذا دل عليه دليل). فاذا قلت: "اكرمني فسرّني زهيرُ"، فان جعلت زهيراً فاعلاً لسرّ، كان فاعل "أكرمَ" (على رأى سيبويه والجمهور) ضميراً مستتراً يعود اليه. وعلى رأي الكسائي ومن وافقه يكون فاعل "اكرمَ" محذوفاً لدلالة ما بعده عليه.

ويظهر اثر الخلاف في التثنية والجمع، فعلى رأي سيبويه يجب ان تقول: (ان اعملت الثاني): "اكرماني، فسرَّني صديقايَ. واكرموني، فسرَّني اصدقائي".

وتقول على مذهب الكسائي ومن تابعه: "اكرمني، فسرَّني صديقايَ. واكرمني، فسرَّني اصدقائي". فيكون الاسم الظاهر فاعلاً للثاني. ويكون فاعل الاول محذوفاً.

وما قاله الكسائي ليس ببعيدٌ، لان العرب تستغني في كلامها عما يُعلم لو حُذف، ولو كان عمدة. ولهذا شواهدُ من كلامهم. اما لو اعملتَ الاول في الاسم الظاهر، فيجب بالاتفاق الإضمار في الثاني، نحو: "اكرمني، فسرَّاني، صديقايَ، واكرمني، فسرّوني، اصدقائي".

والذي دعا الكسائيّ الى ما ذهب اليه، انه لو لم يحذف الفاعل، لوجب أن يكون ضميراً عائداً على الاسم الظاهر المتأخر لفظاً ورتبة، وذلك قبيح.

وقال سيبويه: ان عود الضمير على المتأخر أهون من حذف الفاعل، وهو عمدة، والحقّ أنَّ لكل وجهاً، وانّ الإضمار وتركه على حد سواء.

وقد ورد في كلامهم ما يؤيج ما ذهب اليه الفريقان. فقول الشاعر: جفوني ولم اجف الاخلاءَ..." شاهدٌ لسيبويه:

وقول الآخر:
تعفق بالارطى لها وأرادها -- رجالٌ، فبذَّت نبلَهم وكَليبٌ

(شاهدٌ للكسائي: فهو لا يُضمر في واحد من الفعلين. ولو اضمر في الاول واعمل الثاني لقال: "تعفقوا بالارطى وأرادها رجال". ولو اضمر في الثاني واعمل الاول، لقال: "تعفق بالارطى ورادوها رجال").

واعلم أنهُ لا يقعُ التنازعُ إلا بينَ فعلينِ مُتصرّفينِ، او اسمينِ يُشبهانِهما، أو فعلٍ متصرفٍ واسمٍ يُشبهُه. فالأول نحو: "جاءَني، وأكرمتُ خالداً"، والثاني كقول الشاعر:
عُهِدْتَ مُغِيثاً مُغنِياً مَنْ أَجَرْتَهُ -- فَلَمْ أَتَّخِذْ إِلاَّ فِناءَكَ مَوْئِلا

والثالثُ كقوله تعالى: {هاؤُمُ اقرَأُوا كتابِيَهْ}. ولا يقعُ بينَ حرفين ولا بينَ حرفٍ وغيره، ولا بينَ جامدينِ، ولا بينَ جامدٍ وغيره.

وقد يُذكَرُ الثاني لمجرَّدِ التَّقويةِ والتأكيد، فلا عَمَلَ له، وإنَّما العمل للأوَّلِ. ولا يكونُ الكلامُ حينئذٍ من باب التنازع، كقول الشاعر:
فَهَيْهَاتَ، هَيْهَاتَ، الْعَقِيقُ وَمَنْ بهِ -- وهَيْهَاتَ خِلٌّ بالْعَقيقِ نُواصِلُهْ

وقول الآخر:
فأَينَ إلى أَينَ النَّجَاةُ ببَغْلَتِي -- أَتاكَ، أَتاكَ، اللاَّحِقُونَ، احْبِسِ احْبِسِ

(ولو كان من باب التنازع لقال: "اتوك اتاك اللاحقون"؛ باعمال الثاني في الظاهر والإضمار في الاول، او "اتاك اتوك اللاحقون" بالإضمار في الاول واعمال الثاني في الظاهر).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال