حزب البعث العربي الاشتراكي والقضية الفلسطينية.. إنشاء مكتب فلسطين الدائم وتجنيد جميع أعضائه للاشتراك في المجهود الحربي

دأب الحزب، بين عامَي 1948 و1958، على إصدار بيانات سياسية، في شأن القضية الفلسطينية، في مناسباتها المختلفة.

في العام الأول من تاريخ الحزب "وهو في الوقت نفسه العام الأخير من تاريخ فلسطين كأرض عربية يسكنها شعبها العربي" لم ينشأ في فلسطين فرع للبعث، إلا أن ذلك لم يكن عائقا دون توجيه طاقات الحزب المتوفرة من أجل المعركة.

من الناحية العملية شارك الحزب في "جمعية تحرير فلسطين" التي كانت مهمتها الأولى إرسال المتطوعين المتدربين إلى فلسطين. وفي الاجتماع الذي عقده مجلس الحزب في     19 سبتمبر/  أيلول 1947 أعلن:
"إن حزب البعث العربي إذ يضع نفسه في طليعة كتائب الجهاد.. لإنقاذ فلسطين، يدعو الهيئات العربية ذات الصفة الشعبية النضالية، إلى توحيد الخطط والجهود وتحمّلها مسؤولية قيادة هذه المعركة الفاصلة وإيصالنا إلى النصر وإنقاذها مما تتعرض له من أخطاء الحكومات والقيادات الرجعية  واستغلالها".

وفي أوائل سنة 1948 أنشأ الحزب مكتب فلسطين الدائم، كما اتخذ قراراً في 16 يناير/ كانون الثاني بتجنيد جميع أعضائه للاشتراك في المجهود الحربي، وبد أن أتمّ تدريب كتيبة من شبابه، توجهت اللجنة التنفيذية وهي القيادة العليا للحزب مع كتيبتها إلى أرض المعركة، فشاركت في القتال، واستشهد من رجالها عديدون نذكر منهم مأمون البيطار ومحمد جديد وفتحي الأتاسي.

ومن فلسطين، ومن جنين، كتب أمين عام الحزب إثر مشاهداته الحية مقالاً في جريدة البعث بعنوان إنقاذ فلسطين دعا فيه إلى ضرورة وضع قضية فلسطين بين أيدي المقاتلين وتجهيزهم بمقتضيات الحرب الحديثة، وقال:
"والآن، يهمنا أن نحسن الاستفادة من هذه التجارب الأليمة لنحول مجريات المعركة تحويلاً أساسياً لمصلحتنا ونضمن النصر لقضيتنا.

فالحرب التي تدور رحاها بيننا وبين الصهيونيين لا تشبه معارك الاستقلال التي خضناها وما زلنا نخوضها ضد قوى الاستعمار".

إذ أننا في هذه الحرب نعمل لأول مرة كعرب متحدين متضامين من سائر الأقطار.
ونكافح عدوان شعب مهما قيل في قوة استعداده وكثرة وسائله، فهو أقل من أن يقاس بجزء من القوى الاستعمارية التي نكافحها.

لذلك لم يكن جائزا أن تبقى المعركة بيننا وبين الصهيونيين طوال هذه الأشهر معركة دفاعية وأن نقنع بالتكافؤ مع عدونا، لأن العدو لم يكن يطمع في أكثر من الصمود لقوتنا، ولأن مجرد التكافؤ مع هذا العدو يصيب معنوياتنا في الصميم، إذ يجوز كل شيء إلا أن تتعادل الأمة العربية مع عصابات الصهاينة.

إذن فأول ما ينبغي عمله هو أن تصبح القوات العربية المحاربة، في عددها ومعداتها، أصدق ما يكون تعبيراً عن إمكانيات الأقطار العربية. وأن تشجع بصورة خاصة إمكانيات عرب فلسطين ويستفاد منها إلى أبعد حدّ ممكن، لأن الغاية من اشتراك الأقطار العربية لم تكن تعطيل هذه القوى بل دعمها وتأييدها).

وقال في نهاية المقال:
(إن النواقص والأخطاء التي تيسر لنا مشاهدتها في الجبهة الداخلية كثيرة وخطيرة، وهي بحاجة إلى إصلاح جدي وتدارك سريع، ولكنّنا لم نكن في يوم من الأيام أكثر تفاؤلاً بالنصر مثلنا الآن بعد أن لمسنا لمس اليد بطولة جنودنا وأفراد شعبنا وتصميمهم على تخطي المتاعب والعقبات مهما كلفهم ذلك من تضحيات).

بعد أسبوع واحد من نشر هذا المقال، الذي يبقى شاهداً على وحدة المقاتلين العرب وعلى معنوياتهم وصمودهم، دخلت الجيوش العربية الرسمية إلى أرض فلسطين، وتسلمت الحكومات العربية مقادير المعركة.

لم يكن باستطاعة حزب البعث العربي، وهو في عامه الأول أن يؤثر في موازين القوى السياسية العربية تأثيراً فعلياً، ولكنه استطاع من منطلق الفكر النضالي العربي أن يكون ذلك الصوت العقائدي الوحدوي بوجه المؤامرة، وعلى سبيل المثال، نذكر أنه بينما كانت الصحف العربية - والفلسطينية منها ـ تنشر بنود المعاهدة الأردنية البريطانية دون أدنى تعليق أرسل البعثيون إلى أمين الجامعة العربية والحكومات العربية برقية احتجاج على المعاهدة جاء فيها:
"المعاهدة الأردنية البريطانية مخالفة بيّنة لمصلحة العرب وأمانيهم القومية، وتعدٍّ صريح على حق الشعب العربي في الاستقلال والوحدة، وفي تقرير مصيره بنفسه".

إن هذه المعاهدة، بإبقائها الاحتلال البريطاني في شرق الأردن تلغي استقلال هذا القطر من أساسه، وتهدد استقلال الأقطار العربية المحيطة به في كل حين، وتعرقل سير هذه الأقطار نحو الوحدة كما تضمن للصهيونية الآثمة تحقيق أغراضها في فلسطين دون أن يبقى للعرب أي مكان في إنجاد هذا القطر وإنقاذه .

وفي مجموعة البيانات الرسمية التي أصدرها الحزب اتهامات مستمرة لسياسة الجامعة العربية ودولها المتهاونة، ودعوة  إلى تسليح عرب فلسطين وتجنيد الطاقات العربية كلها من أجل المعركة، والسبيل الذي دعا إليه سبيل واحد وهو أن يضغط الشعب العربي على حكوماته المحلية ويوجهها في طريق مصلحة القومية والجهاد من أجل القضاء على الصهيونية في فلسطين قضاء أبديا.

وكانت المشكلة، أن الشعب عادة ليس باستطاعته الضغط وليس باستطاعته توجيه حكوماته، إلا من خلال أحزابه وهيئاته التقدمية الثورية، فهي المسؤولة عن قيادة نضاله، وقد كانت أحزابه وهيئاته التقدمية بحد ذاتها عاجزة عن إحداث التغيير، وذلك لأن البنية الحزبية العقائدية في المجتمع العربي كانت بشكل عام إما دون مستوى المعركة، أو في دور التكوين.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال