قُطْعَة طيِّئ.. لثغة في بني طيِّئ كالعنعنة في تميم. لهجة التزمتها القبيلة.

قُطْعَة طيِّئ:
1- أقدم إشارة لقُطْعَة طيِّئ ما ورد في معجم العين للخليل بن أحمد (61 ط بغداد، 1/156 تحقيق د. عبد الله درويش) ومثل لها بقولهم: يا أبا الحكا وهو يريد "يا أبا الحكم" فيقطع كلامه عن إبانة بقية الكلمة، ويظهر أن المعاجم التي جاءت بعد الخليل لم تزد شيئًا عن ذلك.

أ)- ففي القاموس وشرحه: والقطعة أيضًا لثغة في بني طيِّئ كالعنعنة في تميم وهي أن يقول: يا أبا الحكا – يريد: يا أبا الحكم أ هـ.
ب)- وفي اللسان كما في القاموس (10/159).
ج)- وفي شفاء العليل ص 181 نفس الشيء.

ولا نرى ما ذهب إليه القاموس من أنها لثغة ، بل هي لهجة التزمتها القبيلة ؛ لذلك لا نرى ما ذهب إليه في تشبيه (القُطْعَة في طيئ) بالعنعنة في تميم، إذ إن كلاًّ منهما مختلف عن الآخر، إلا إذا أراد بذلك (شيوع) كل منهما في بيئتهما.

2- إن المعاجم لم تذكر لقطعة طيئ إلا المثال السابق المختوم بالميم، فهل معنى هذا أن طيئًا كانت تقطع الميم وحدها كما في "يا أبا الحكم"؟ أو أنها كانت تقتطع الحرف الأخير أيًّا كان؟ وشبهة أخرى وهي: هل كانت هذه القُطْعَة أو هذا الحذف في طيئ وحدها، أم شاركتها قبائل أخرى غيرها؟ وهل هذا الحذف خاص بالترخيم؟

ومعروف أن آخر الكلمة محط للتغيير، ولهذا يتضاءل جرس الصوت شيئًا فشيئًا حتى يفنى ويكون عرضة للسقوط، فطيئ كانت تميل إلى الحيف على آخر الكلمة؛   لأنها من القبائل البدوية تلك التي تميل إلى السرعة فتسقط الأصوات تحت هذه العجلة، وليس الأمر خاصًّا بالميم كما نصت المعاجم على ذلك.

ولعل الراوي صادف سماع هذا النص الذي به الميم فقط، أو لعل الميم كانت أكثر حذفًا من غيرها، ويمكن أن يعلل لحذف الميم بأنها من أكثر الأصوات شيوعًا في العربية، والشيء كلما شاع وتداول كان عرضة للحذف.

ومالنا نذهب بعيدًا وقبيلة (شمر) العربية، وهي تسكن أرض طيئ اليوم لا تكاد تنطق بالأصوات الآتية إذا وقعت في آخر الكلمات وهي: ل، م، ن، ت، ي، ر. فالميم التي جاءت في المعاجم العربية أيدها الواقع المعاصر.

وأيدها الواقع المعاصر مرة أخرى، وذلك أن طيئًا من الوجهة العرقية يمنية الأصل، ثم هاجرت بعد ذلك إلى الشمال في ضواحي نجد. ولهجة اليمن الحديثة تحذف الأصوات (م، ن، ل) إذا وقعت متطرفة، وتلك سمات مشتركة بين طيئ وبين موطنها الأصلي.

وليس هذا فحسب ولكن أثر القطعة الطائية يظهر في أماكن أخرى شاسعة متناثرة من ذلك:

أ)- أنها ظهرت في السودان حيث خفت النون في قولهم في الشعر الشعبي: بالتعرفو الدركا (ن)([1])، يا قمريت اللبخ ([2]) والبا (ن).
وفي مديرية (بربر) يقولون: أعطيته الكتا، وسمعت الكلا. يريدون الكتاب والكلام.

ب)- في لهجات المغرب والأندلس يقولون: النَّسْرى (النَّسرين)، وهي الريحانة المعروفة، والجَنِي (الجَنِين) (الجمانة ص 32، 34).

ج)- وفي بلاد مصر: كالمحلة الكبرى وما حولها، وجزيرة بني نصر، وأبيار، وكثير من مديريتي البحيرة، وبني سويف يقولون: النهار طلا والنور ظها والنار خمدت (مميزات لغات العرب ص 29)، ويقولون: يا وا ياحم هات القلة وحطها جن (يا ولد يا أحمد هات القلة وحطها جنبي) (مجلة المجمع العلمي المصري للثقافة ص 109/ 1935 جورج صبحي).

د)- وفي جبل لبنان في قرية (نيعا الشوق) يقولون: (أبو حسا) في: (أبو حسن) (مجلة المقتطف ص 323 مارس 1932).
وإذا كانت (القُطْعَة) في مديرية البحيرة فلا نعجب؛ لأن طيئًا لما خرجت من ديارها أخذت تنتقل شمالاً حتى هبطت، ونزلت مديرية البحيرة (معجم كحالة 2 -690).

3- والقُطْعَة في طيئ تشارك الترخيم في أنها حذف آخر الكلمة، إلا أن   الحذف في الترخيم وارد على آخر الاسم المنادى، وهنا وارد على كل كلمة حرفًا كانت أو فعلاً، أو اسمًا منادى أو غير منادى.

4- كان لطيئ مكانة كبيرة في العربية الشمالية بدليل إطلاق اسمها عند بعض قدامى المؤرخين، وعند الفرس والسريان وعند يهود بابل على جميع العرب، حتى إن ظواهرها اللهجية غزت الفصحى، ووجدنا صداها في النحو العربي في باب (الترخيم) وفي القراءات القرآنية والمعاجم العربية وإليك نماذج منها:

- قوله تعالى: (ونادوا يا مال ليقض علينا ربك) أي: مالك.
- في قراءة الكسائي: "وأكل أزمان الهزال والسِّني" (أي : السنين)(*).

- "وحاتم الطائي وهاب المِئِي" أي المئين من قول المرأة تمدح أخوالها في طيئ.
- "في لجة أمسك فلانًا عن فُلِ" أي عن: فلان.

- "خذوا حذركم يا آل عكرم واحفظوا" أي: عكرمة، فرخم من غير النداء (الشنتمري على سيبويه 1-343).
- (**) "وأوضحت منه تاسعة أماما" أي "أمامة" فرخم في غير النداء وهو من قبل جرير ديوانه 234 .

- "درس المنا بمتالع فأبان" المنازل (الهمع 2- 156،الدرر اللوامع2- 208).
- "أو ألفا مئة من ورق الحمى" الحمام (الهمع 2-157، الدرر اللوامع 2- 218).

- "ليس حي على المنون بخال" بخالد ( شرح السيرافي 1- 255 تيمور).
- مقدم بسبا الفتان ملثوم أي "سباسب" (شرح السيرافي:تيمور1- 255).

وبعض هذه الشواهد، وإن ذكر في كتب الضرورة، إلا أن الضرورة في كثير من الأحيان تعكس لهجة عربية ووجهة نظر، كما قد تعكس خطأ في الرواية.

- كيف الأخوه والأخواه وكيف البنون والبناه (التصريح 2- 343،  شرح المفصل 10 – 45).
- قرأ الكسائي والبري: هيهاه – هيهاه (المؤمنون 36) (مختصر شواذ القرآن لابن خالويه 98) وعزاها الأشموني لطيئ 4- 214.

5- وإن نظرة واحدة في معاجم اللغة لترى القطعة تتناثر في حباتها مما يدل على انتشارها أيضًا فمن ذلك:
- احتسب واحتسي بمعنى: اختبر.
- الحصى والحصب
- والشجى والشجن: وهو الحزن.
- وكظب وكظا: بمعنى اكتنـز لحمًا.
(سر الليالي 27)
- أقهم عن الطعان وأقهى أي "أمسك" (اللسان 15- 397).

6- حذف أحد المثلين:
أ)- خلا أن العناق من المطايا -- أحس به فهن إليه شوس
الخصائص 2/438 والأصل: أحسن: والبيت لأبي زبيد الطائي.
ب)- عوى ثم نادى هل أحستُمْ قلائصا -- وسمن على الأفخاذ بالأمس أربعا
(مجالس ثعلب 2/605) والأصل: أحسستم. والشاهد لابن عنان الطائي وهو بدوي.
ج)- "ينحطن من الجبل" لأعرابي من بني نمير، (اللسان 6/394) .
(وفي التصريح 2/497): ظلت ومست وأحست لغة سليم ونمير "ترجع إلى قيس".

وسليم كذلك وبعض بطون سليم كان ينـزل مع طيئ. يقول الهمذاني (صفة الجزيرة 131 ط. ليدن) فمن وادي القرى إلى خيبر إلى شرقي المدينة إلى حد الجبلين إلى ما ينتهي إلى الحرة – ديار سليم – لا يخلطهم الأصرم من الأنصار سيارة، وقد يخالون طيِّئًا هي التي نشرت الظاهرة فيما حولها.

وقول عربي عرقب ناقته لضيف فقيل له: هلا فصدتها وأطعمته دمها مشويًّا  فقال، هذا فصدي أنه (ابن يعيش 3/94) يريد (أنا) وفي شرح الشافية 2/294 فما بعدها أن هذا العربي حاتم طيئ.

7- حذف ألف الغائبة في الوقف:
أ)- قول عامر الطائي:
فلم أر مثلها خباسة واجد -- ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله
والأصل: أصلها (أي الخصلة) وقد عزيت لطيئ في الجمهرة 1/234 والأشموني 4/205 والدرر 2/131.

وقرأ علي وعروة (ونادى نوح ابنه) أي: ابنها: والمعنى "ابن امرأته" (البحر5 – 226، المحتسب 1/322 ط المجلس الأعلى).

ب)- وقولهم "والكرامة ذات أكرمكم الله به" والأصل: بها، فحذفت الألف وسكنت الهاء بعد نقل حركتها للباء ( الهمع 2/206، وعزيت لطيئ. الجمهرة 1/234، والأشموني 4/205).

وبعد ما سقناه من أثر لهجة طيئ في تراثنا العربي، والعاميات المعاصرة في أرجاء الوطن العربي يحق لنا أن نعترف بصدق مقولة الزمخشري "إن طيئًا لا تأخذ من لغة، ويؤدى من لغاتها " الفائق 3/91.
ويؤنسنا فيما سقنا، أن (القُطْعَة) تركن من الفصحى إلى ركن أصيل، وسند قويم.

([1]) الدركان: المجهود المنهوك.
([2]) نداء للطائر الذي يقف على شجر اللبخ والبان (من أصول اللهجات العربية في السودان: 83 د. عابدين) وانظر الخزانة: 3/204 ط السلفية.
(*) ورد الشاهد في ضرائر القزاز 102 تونس، والمرأة تمدح أخوالها من اليمن:
حيـدة خالـي ولقيط علي -- وحاتم الطائي وهـاب المئي
ولم يكن لخالك العبد الدعي -- يأكل أزمان ا لهزال والسني.
(**) وانظر ما يشبه هذا الحذف في سيبويه ج1 / 343.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال