ذهب غالبية الفقه الفرنسي إلى أن المبادئ الواردة في إعلانات الحقوق تتمتع بصفة القواعد القانونية الملزمة، إلا أنهم اختلفوا حول المكانة التي تحتلها إعلانات الحقوق في سلم تدرج القواعد القانونية، وتفصيل ذلك ما يأتي:
1- ذهب جانب من الفقه، يتزعمه العميد "ليون ديجي" Léon DUGUIT إلى القول بأن لإعلانات الحقوق قوة قانونية تعلو الدستور ذاته، وطبقاً لهذا التصور تحتل إعلانات الحقوق قمة الهرم القانوني، ليأتي بعدها القوانين الدستورية ثم القوانين العادية.
ولذا يلتزم المشرع الدستوري بإعلانات الحقوق كما يلتزم المشرع العادي بالدستور.
ولقد استند أنصار هذا الاتجاه إلى حجة مفادها أن تلك الإعلانات تتضمن مبادئ أساسية مستقرة في الضمير الإنساني العالمي، ومن ثم تسمو على نصوص الدستور الوضعي، فهي تجسيد لهذه المبادئ التي تتمتع بقدسية خاصة، واحترام واجب، ولو لم ترد في نصوص، ولذا فهي ملزمة للسلطة التأسيسية التي تتولى وضع الدستور، ومن باب أولى فهي ملزمة للسلطات المؤسَّسة (التشريعية والتنفيذية والقضائية)؛ ولذلك فهي تسمى عند أصحاب هذا الاتجاه بـ "دستور الدساتير".
ومن ناحية أخرى، فإن هذا السمو مستمد من اختلاف مضمون النصوص الواردة بإعلان الحقوق عن مضمون نصوص الدستور، فالأولى تعلن المبادئ الأساسية والأهداف العامة، وترسم الإطار للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة.
في حين أن الثانية تتضمن بداهة القواعد التفصيلية المنظمة للسلطات المختلفة، على ضوء تلك الأهداف، وفي حدود ذلك الإطار، فبديهي أن يلتزم واضعو الدستور الحدود والأبعاد التي رسمها الإعلان، وأن يترسموا خطاه وغاياته وأهدافه.
على أنه يؤخذ على هذا الرأي أنه ليس هناك ما يعلو الدستور، فالدستور هو القانون الأسمى في الدولة، وتبعاً لمبدأ تدرج القوانين فلا يوجد إلا درجتان: القوانين الدستورية والقوانين العادية، وعلى ذلك فلا يمكن أن نعطي لإعلانات الحقوق صفة القوانين التي تعلو الدستور une loi Supra constitutionnelle.
2- وذهب جانب آخر من الفقه إلى أن القيمة القانونية لإعلانات الحقوق تتساوى مع القيمة القانونية للقوانين العادية.
وحجتهم في ذلك أن السلطة التأسيسية التي قامت بوضع تلك الإعلانات لو أنها أرادت أن تكون لها نفس قوة النصوص الدستورية وقدسيتها لأدرجتها في صلب الوثيقة الدستورية، أو لأفصحت عن قيمتها القانونية صراحةً.
ويترتب على ذلك أن البرلمان بإمكانه مخالفة المبادئ التي تضمنتها إعلانات الحقوق دون أن تصطبغ أعماله بعدم الدستورية.
3- كما ذهب فريق كبير من الفقهاء إلى أن هذه الإعلانات لها قوة قانونية معادلة لنصوص الدستور، بسبب ورودها عن ذات المنبع ألا هو إرادة السلطة التأسيسية؛ ومن ثم تتمتع نصوصها بما تتمتع به نصوص الدساتير من قدسية وحصانة وجمود في مواجهة المجالس النيابية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ منها.
ولقد استند هذا الجانب من الفقه على ثلاث حجج لتدعيم وجهة نظره:
- أولها: حجة تاريخية واقعية من مقتضاها أن إعلان الحقوق الصادر عام 1789 كان يعتبر جزءاً لا يمكن فصله عن النظم الدستورية في نهاية القرن الثامن عشر وفي الوقت الحالي أيضاً، وهو ما قررته فعلاً الدساتير الفرنسية كدستور سنة 1791، ودستور سنة 1946، والدستور الحالي لسنة 1958.
- ثانيها: أن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على مساواة إعلانات الحقوق بقوة الدساتير ذاتها، ذلك أن القضاء يفرض رقابته على دستورية القوانين من ناحية ضرورة مطابقتها ليس فقط لأحكام الدستور الاتحادي بل كذلك لإعلانات الحقوق السائدة هناك (وتحديداً التعديلات العشرة الأولى التي أدخلت في سنة 1791 على الدستور الاتحادي والتي اعتبرت بمثابة إعلان للحقوق Bill of Rights).
- ثالثها: تصوّر البعض ـ كالعميد "موريس هوريو" Maurice Hauriouـ أنه لا يسود في الدولة دستور واحد فحسب، بل هناك في حقيقة الأمر دستوران: الأول هو "الدستور السياسي" La Constitution politique للدولة، وهو الذي يبين نظام الحكم في الدولة ويحكم بالتالي تنظيم ونشاط السلطات العامة.
أما الدستور الآخر فهو "الدستور ـ الاجتماعي" La Constitution sociale للدولة، الذي يقرر أساس النظام الاجتماعي الذي تعيش في ظله الجماعة، والذي يصور على وجه الخصوص طبيعة العلاقة بين الدولة والأفراد؛ وهذا ما تقرره إعلانات الحقوق من مبادئ وأحكام.
فإذا اعتبرنا أن الدستور السياسي للدولة عبارة عن وثيقة قانونية لها الصفة الإلزامية العليا، وجب علينا كذلك أن نعطي هذه الصفة للدستور الاجتماعي، نظراً للقيمة المتعادلة بين هذين الدستورين.
لذلك أعطى هذا الجانب من الفقه إعلانات الحقوق قوة قانونية مساوية للدستور ذاته، بحيث تتعادل إعلانات الحقوق مع الدستور في الدرجة والقوة.
التسميات
قانون دستوري