ذهب غالبية الفقه في مصر - بحق - إلى أن القاعدة الدستورية هي قاعدة قانونية يتوافر فيها كل عناصر القاعدة القانونية، فهي أولاً قاعدة عامة ومجردة، وليس هناك أدنى شك في عمومية وتجريد النصوص الدستورية.
فالقواعد الدستورية في مجملها لا تتعلق بأشخاص بذواتهم أو وقائع بعينها، ومن المعروف أن القاعدة لا تفقد العمومية وإن تحددت دائرة تطبيقها واقعياً في شخص واحد كرئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الشعب أو رئيس مجلس الوزراء، طالما أن النص تناول الشخص بأوصافه لا بذاته، فالنصوص الخاصة برئيس الوزراء مثلاً يخضع لها من يشغل المنصب حالياً ومن يحتله مستقبلاً.
كما أن القاعدة الدستورية، فضلاً عن ذلك، تتسم بأنها قاعدة اجتماعية، حيث تنظم في جزء منها علاقة الفرد بالدولة الخاضع لها.
وأخيراً فإن القاعدة الدستورية هي قاعدة ملزمة، حيث يتوافر فيها عنصر الجزاء، إذ يترتب على مخالفة قواعد القانون الدستوري العديد من الجزاءات، وهذه الأخيرة أي الجزاءات تـأخذ صوراً وأشكالاً متعددة: منها ما هو منظم بمعنى أن الدولة كسلطة عامة تختص بتوقيعه، ومنها ما هو مرسل أو غير منظم.
فبالنسبة للجزاءات المنظمة المقررة لحماية القاعدة الدستورية فهي عديدة ومتنوعة، وتأخذ في التطبيق صوراً وأشكالاً متعددة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
- تحرص السلطة التأسيسية في بعض النظم الدستورية على أن تضمن الوثيقة الدستورية نصوصاً تتناول بعض الوسائل القانونية التي تكفل نفاذ القواعد الدستورية وحسن تطبيقها، وتحُدّ من محاولة الخروج عليها من جانب السلطات العامة في الدولة.
ومن ذلك النصّ على ﴿الرقابة المتبادلة بين السلطات العامة في الدولة، وبخاصة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية﴾، لتؤكِّد من خلالها خضوع الهيئات الحاكمة للقواعد الدستورية، ولتكفل إلى حد كبير عدم طغيان إحدى السلطتين على الأخرى، وعدم تجاوز أيهما الوظيفة التي أسندها المشرع الدستوري إلى وظيفة سلطة أخرى.
- النصّ في الوثائق الدستورية لبعض الدول على حق القضاء غالبـاً (القضاء العادي أو القضاء الإداري أو المحكمة الدستورية الخاصة) في إلغاء القوانين المخالفة للدستور أو الامتناع عن تطبيقها، وذلك حسب الأحوال، وهو ما يعرف اصطلاحاً بـ ﴿الرقابة على دستورية القوانين﴾.
وهذه الرقابة تمثل وسيلة قانونية فعالة لضمان الالتزام بالحدود الدستورية وبالمبادئ والقواعد التي قررتها الوثيقة الدستورية، ومن ثم احترام الدستور نصاً وروحاً، كما تمثل الجزاء المنطقي على خروج المشرع العادي عن الحدود التي يفرضها الدستور.
الجزاء السياسي الحاسم الذي يتمتع به الشعب في مواجهة الحكَّام المخالفين للقواعد الدستورية، وهو الجزاء المتمثل في تجريدهم من ثقته وعدم تجديد انتخابهم، وهذا الجزاء يتفق مع طبيعة القاعدة الدستورية، وهو جزاء منظَّم من صاحب السيادة في الوقت الحاضر ألآ وهو "الشعب".
أما بالنسبة للجزاءات غير المنظمة لحماية القاعدة الدستورية، فهي عديدة وتتمثل أساساً في رد الفعل الاجتماعي لامتهان قواعد الدستور، والذي يتدرج بداية من رقابة الرأي العام بصحفه وأحزابه وجماعاته الضاغطة إلى الاضطرابات والمظاهرات التي تعكس سخط الشعب؛ وقد تصل الأمور إلى ذروتها فيثور الشعب للمحافظة على الدستور من عبث الحاكم وطغيانه.
فلا شك أن الشعب يستطيع خاصة إذا ما كان واعياً مستنيراً، وحريصاً على حماية حقوقه وصيانة حرياته أن يجبر أي من السلطات العامة في المجتمع على ضرورة احترام قواعد القانون الدستوري وأحكامه، والامتناع عن مخالفتها وهو ما يقال له ﴿حق الأفراد في مقاومة طغيان السلطات الحاكمة﴾.
ويعتبر العهد الأعظم The Magna Carta(أو الميثاق الكبير The Great Charter) في إنجلترا الذي انتزعه البارونات Barons في 19 يونيو / حزيران سنة 1215 من الملك جونKing John من أوضح الأمثلة في العصور الوسطى على ذلك.
فلقد قرر هذا العهد أن كل حكم يصدر في المستقبل مخالفاً لقواعده يعد باطلاً ولا أثر له، ولضمان حسن تنفيذ ذلك ، نص العهد في المادة / 61 / منه على أن يقوم البارونات بتشكيل هيئة من خمسة وعشرين باروناً من بارونات المملكة، يكون لها حق استخدام القوة - وكل الطرق المتاحة الأخرى - ضد الملك إذا ما حاول الخروج على القيود المفروضة في هذا العهد.
كما قد حظي حق مقاومة الطغيان بالإقرار من جانب "إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية" الصادر في الرابع من يوليو/ تموز سنة 1776 إذ جاء به: ﴿نحن نؤمن بهذه الحقائق البديهية، وهي أن جميع الناس قد خلقوا متساوين، وأن خالقهم قد وهبهم حقوقاً معينة لا يملكون هم أنفسهم النزول عنها، ومن بين هذه الحقوق الحياة والحرية وابتغاء السعادة، وأن الحكومات إنما تقوم بين الناس كي تصون هذه الحقوق، وأن الحكومات إنما تستمد سلطانها المشروع من رضاء المحكومين، فإذا اتجهت نية الحكومة ـ مهما كان شكلها ـ إلى النيل من هذه الحقوق أو الانتقاص منها، فإن للشعب الحق في أن يغيّرها أو أن يسقطها، ويقيم مكانها حكومة جديدة تستند إلى هذه المبادئ، وتنظم سلطاتها على نحو يكفل للشعب سلامته وسعادته﴾.
ولعل أهم النصوص وأكثرها وضوحاً واعترافاً بحق المقاومة، تلك التي تضمنتها الإعلانات الثورية المختلفة التي صاحبت الثورة الفرنسية في مراحلها المتعددة.
فلقد سجل إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26 أغسطس / آب سنة 1789 مقاومة الطغيان ضمن الحقوق الطبيعية للأفراد التي عُنيَ بالنص عليها في المادة الثانية منه، حيث قرر بأن «الغاية من كل مجتمع سياسي هي حفظ حقوق الإنسان الطبيعية التي لا تزول ولا تسقط بمرور الزمن، وهذه الحقوق تتمثل في الحرية والملكية والأمان ومقاومة الظلم أو الاضطهاد».
وبالإضافة إلى الجزاءات المنظمة والمرسلة السابق ذكرها، فإن المنطق يعطينا كما يذهب جانب من الفقه بحق دليلاً جديداً على توافر الصفة القانونية للقواعد الدستورية.
فإذا كانت قواعد القوانين العادية التي يصدرها البرلمان أو السلطة التنفيذية تعتبر قواعد قانونية، فإن المنطق يؤدي إلى اعتبار القواعد الدستورية قواعد قانونية أيضاً، لأن القواعد القانونية العادية تستند في إصدارها إلى القواعد الدستورية وتستمد منها صفتها الإلزامية، ولا يتصور أن يكون الفرع (القاعدة القانونية العادية) متمتعاً بالصفة القانونية ويحرم منها الأصل (القاعدة الدستورية) وإلا ترتب على غير ذلك أن تسيطر قواعد غير قانونية على القواعد القانونية.
ويترتب بالتالي أن تفقد القواعد القانونية العادية قوتها الإلزامية، لأنه لا يستساغ أن تستمد تلك القواعد قوتها الإلزامية من قواعد غير ملزمة.
التسميات
قانون دستوري