إذا كنا في هذا السياق نروم مواكبة التحولات المترتبة عن مسلسل إصلاح المنظومة التربوية الذي شهد المغرب انطلاقته منذ سنوات، فإن النزوع إلى الإصلاح التربوي قد أملته شروط ارتبط بعضها بضرورات وتراكمات شهدها الحقل السياسي والاجتماعي في المغرب بدءا من منتصف التسعينيات بالخصوص، والتي تمثلت في المد الملحوظ لحركية المجتمع المدني التي مست دوائر ومستويات للعمل كانت صعبة الاختراق من قبل.
كما تمثلت أيضا في الفاعلية السياسية التي ارتقت إلى مستوى المطالبة بدمقرطة الحياة العمومية وإحلال الحوار والتواصل مكان التوتر الذي ساد بين مكونات المشهد السياسي لمرحلة من الزمن ليست بالقصيرة.
ومهما تكن بعض الضرورات الداعية إلى الإصلاح التربوي نابعة من توصيات وإملاءات المؤسسات الدولية، فإن هذا المعطى لا يجب أن يحجب عنا بعض مؤشرات النضج التي لاحت في الأفق السياسي والثقافي في المغرب، وأفضت إلى قناعة تعتبر الاستمرار في النهج التربوي السائد نزوعا بالبلاد نحو الهاوية.
لقد امتلأت القراءات السياسية والمعالجات الفكرية للوضع التعليمي في المغرب على امتداد النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي بأطاريح ومضامين تحكم بعتاقة الاختيارات التربوية السائدة وبمحدودية أهم المبادئ والمفاهيم التي أطرت النسق التعليمي على امتداد أربعة عقود من الزمن، إلى الحد الذي صارت فيه هذه الاختيارات والمفاهيم عنوان أزمة عميقة اتضحت تجلياتها الكبرى في البون الشاسع بين تطلعات المجتمع وهمومه ومضامين البرامج التعليمية ومحتوياتها، وفي قصور النظام التربوي عن بلوغ رهان التعميم المعلن عنه منذ بداية الاستقلال السياسي واستمرار مشكلة نقص التمدرس في البوادي وفي أحزمة المدن ومناطقها المكتظة بالسكان.
كما اتضحت هذه الأزمة أيضا في افتقاد الشطر الأساسي للمناهج التربوية لمسوغاتها الثقافية والمجتمعية والحضارية، مما جعلها عبارة عن تدابير ميكانيكية لا تقوى على بلورة التراكم المنشود. لقد عرف المغرب تدابير "إصلاحية" للمنظومة التعليمية ترتبت عنها توصيات وقرارات.
ولكن تلك التدابير قد آلت إلى فشل مبين نعزوه تارة إلى هيمنة الطابع السياسوي عليها واحتلال الهم التربوي مرتبة لاحقة، ونعزوه تارة أخرى إلى سيطرة الإجراءات ذات البعد الواحد التي اتخذت طابعا سلطويا حجز منطق المشاركة ومنع أي أمل في المبادرة والمناقشة وإبداء الرأي. ناهيك عن السمة الارتجالية لهذه التدابير، والتي عزفت عن تقويم التجربة الوطنية في التربية والتعليم وراهنت على تصريف أنظمة واختيارات ومناهج لم يتم فحصها بكيفية دقيقة ومتأنية.
وهذا ما أفضى ـ عمليا ـ إلى تفاوت عميق بين المطلب المجتمعي المتعلق بالتعليم وبين البنيات التربوية السائدة، وأدى إلى تنازع حقيقي بين منظومتي التكوين والتشغيل، وأبقى على نسقنا المدرسي في دائرة العتاقة والتعثر وإعادة إنتاج أسباب التراجع والانطواء. فهل ستؤدي الخطوة الإصلاحية الراهنة إلى تجاوز معالم النقص والقصور التي أشرنا إليها؟
يعتبر الميثاق الوطني للتربية والتكوين عنوانا ناصعا ومرجعا أساسيا للعملية الإصلاحية التي يشهدها نظامنا التربوي بمختلف مستوياته وأسلاكه وتخصصاته.
ومن المؤكد أن هذه الوثيقة قد صدرت في مرحلة اتسمت بنقلات سياسية ودستورية ومجتمعية لم يشهدها المغرب من ذي قبل.
وإذا كانت الإجراءات الممهدة لإعداد الميثاق قد استحضرت الأخطاء التنظيمية والسياسية التي سقطت فيها تجارب الإصلاح السابقة، فإن فائدة كل ذلك قد اتضحت من خلال إشراك أطراف من الحقل السياسي والنقابي والديني والجمعوي في صياغة برنامج لإصلاح التربية والتكوين.
لقد توصلت تجربة إعداد الميثاق الوطني إلى بلورة مفهوم جديد للمدرسة قائم على دعاماته ومبادئه الكبرى، وإلى تحديد الوظائف التربوية والفكرية والحضارية للمدرسة بناء على مستلزمات المحيط السيوسيواقتصادي والثقافي وعلى الحاجة المجتمعية إلى التمدرس والقضاء على الأمية، مثلما تم هذا التحديد أيضا بناء على مقومات ومكتسبات الثقافة الوطنية وضرورات الانفتاح على الحضارة الإنسانية.
كما استطاعت هذه التجربة بلورة المرتكزات والدعامات البيداغوجية والتنظيمية والتكنولوجية التي لابد منها لخوض غمار الإصلاح التربوي، ولم تغفل دور التكوين في تأهيل الموارد البشرية ومكانة البحث العلمي في خدمة الاختيارات التربوية، كما لم تهمل التدبير والتقويم والشراكة واللاتمركز كمفاهيم لا معنى لإصلاح المدرسة وتجديدها إلا بتمثلها وتصريفها وأجرأتها.
ومهما كانت درجة القصور الذي يتسم به الميثاق الوطني للتربية والتكوين، فإننا نعتبر هذه الوثيقة في حاجة إلى مزيد من الدراسة والتمحيص والإغناء، ليس فقط من حيث مادتها المفاهيمية والنظرية فحسب، بل من حيث الأبعاد السياسية والمجتمعية والثقافية التي تفصح عنها والإمكانيات الإجرائية والتطبيقية التي تسمح بها.
التسميات
مدرسة