عودة رأسمالية الاحتكارات المالية المعولمة.. إعادة الانتقاد الجذري للرأسمالية على أسس الفكر الماركسي والاعتقاد بمرونتها وتكيفها مع متطلبات التقدم التكنولوجي

الرأسمالية "ليبرالية" بطبيعتها لا بالمعنى الجميل للكلمة، ولكن بمعنى التحقيق الكامل لسيطرة رأس المال لا على العمال والاقتصاد فحسب، ولكن على جميع مظاهر الحياة الاجتماعية.

فلا يوجد "اقتصاد السوق" (وهو التعبير الشائع عن الرأسمالية)، دون "مجتمع السوق"، ورأس المال يجري وراء هذا الهدف الوحيد.

إنه يجري وراء المال ... التراكم في حد ذاته. وقد فهم ماركس هذه الحقيقة جيداً، ومن بعده بعض المفكرين الانتقاديين مثل "كينز"، ولكن لم يفهمها الاقتصاديون التقليديون بمن فيهم اليساريون.

وقد فرضت الطبقات الحاكمة بعناد هذا النموذج للسيطرة الكاملة لرأس المال طوال سنوات الأزمة الطويلة وحتى عام 1945.

وكان الانتصار الثلاثي للديمقراطية، والاشتراكية، وحركة تحرير الشعوب، هو وحده الذي سمح باستبدال التعايش الصدامي للأنظمة الثلاثة المقننة: "دولة الرفاهية" للاشتراكية الديمقراطية في الغرب، والاشتراكية كما هي في الواقع في الشرق، والوطنية الشعبية في الجنوب، بالنموذج الرأسمالي القح.

لكن انقطاع أنفاس هذه الأنظمة الثلاث، ثم انهيارها، سمح بعودة السيطرة الكاملة لرأس المال "النيوليبرالي".
وقد جمعت بين هذه "اللبرالية" وبعض الصفات الجديدة الأخرى فيما أطلقت عليه اسم "الرأسمالية الشائخة".

وكان الكتاب الذي ظهر في عام 2001حاملاً هذا الاسم من الأعمال النادرة في تلك الحقبة، التي بدلاً من اعتبار "النيوليبرالية" المالية المعولمة "نهاية التاريخ"، حللها كنظام شائخ غير مستقر محكوم عليه بالانهيار ابتداءً من بعده المالي (كعب أخيل، كما كتبت).

وقد ألقى الاقتصاديون التقليديون آذاناً صماء لكل ما يمس أفكارهم الجامدة الدوغماتيكية، للدرجة التي جعلتهم لا يتصورون وقوع الانهيار المالي لعام 2008. أما من اعتبرتهم وسائط الإعلام من المنتقدين فلا يستحقون هذا الوصف، فـ"ستيغليتس" مثلاً يعتقد أنه من الممكن عودة النظام بشكله السابق - اللبرالية المالية المعولمة - إلى وضع القيادة بشرط القيام ببعض التصحيحات.

أما "أماراتيا سين" فيعظ بتطبيق مبادئ الأخلاق دون أن يجرؤ على النظر إلى الرأسمالية على حقيقتها الحتمية في الواقع.

دفعت الكوارث الاجتماعية التي سببتها اللبرالية - الجنة الدائمة للرأسمالية كما وصفتها - لبعض الحنين للماضي القريب أو البعيد.

ولكن هذا الحنين ليس الرد على التحدي، فهو نتيجة لغياب الفكر النظري الانتقادي بما سمح بعدم فهم التناقضات الداخلية، وحدود أنظمة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي جعل التآكل والتخبطات ثم انهيار هذه الأنظمة تبدو وكأنها كوارث غير متوقعة.

ومع ذلك، ففي الفراغ الذي خلقه غياب الفكر النظري الانتقادي، أخذ وعي ذو بعد جديد بالأزمة النظامية للحضارة يشق طريقه، وأشير هنا للمدافعين عن البيئة.

ولكن الخضر الذين قرروا أن يميزوا أنفسهم بوضوح عن الزرق (المحافظون واللبراليون)، وعن الحمر (الاشتراكيون)، وضعوا أنفسهم في مأزق لأنهم لم يدمجوا البعد البيئي للتحدي مع الانتقاد الجذري للرأسمالية.

كانت جميع الظروف مهيأة إذن لانتصار - المؤقت فعلاً وإن بدا أنه "نهائي" - البديل المسمى "الديمقراطية اللبرالية".

وهو فكر بائس - بل إنه ليس فكراً بالمرة - يتجاهل قول ماركس القاطع بشأن هذه الديمقراطية البرجوازية التي تتجاهل أن من يقررون ليسوا هم المعنيين بهذه القرارات المتخذة.

من يقررون اليوم، مستندين للسلطة المستمدة من المِلكية، هم أصحاب رأس المال الاحتكاري والدول التابعة لهم. وبطبيعة الأشياء فالعمال والشعوب الخاضعة لهم هم ضحايا هؤلاء المتمكنين.

وكان من الممكن أن تنجح هذه الأوهام لبعض الوقت حيث لم يتمكن ذوو الأفكار الدوغماتيكية من أن يفهموا أسباب تخبط هذه النظم لما بعد الحرب العالمية.
لذلك بدا أن "الديمقراطية اللبرالية" هي "أفضل النظم الممكنة".

ولكن الكارثة اللبرالية تفرض إعادة الانتقاد الجذري للرأسمالية على أسس الفكر الماركسي كما يقتضي الأمر، وهذا الكتاب يدخل في إطار مساهمة المؤلف في هذا الجهد.

واليوم، تعمل السلطات القائمة، التي لم تتوقع ما حدث، على إعادة النظام ذاته كما كان. ونجاحهم في ذلك، مثل نجاح المحافظين في عام 1920 - الذي أدانه "كينز" في حينه دون استجابة - لن يؤدي إلا إلى مضاعفة عنف التناقضات التي أدت للانهيار المالي في عام 2008.

والاجتماع الأخير لمجموعة العشرين (في لندن في أبريل 2009) لا تعني بالمرة "إعادة بناء العالم"، وليس من المصادفة أن تبعتها فوراً قمة الأطلنطي وهي الذراع المسلح للإمبريالية اليوم، وما أكدته من تعزيز جهدها العسكري في أفغانستان، فالحرب الدائمة للشمال ضد الجنوب يجب أن تستمر.

وليس أقل خطورة أن اقتصاديي "اليسار" قد انضموا منذ وقت طويل لأغلب أطروحات الاقتصاد الشائعة، وأقروا بالفكرة - الخاطئة - عن رشاد السوق.

فقد ركزوا جهودهم على تحديد شروط هذا الرشاد، متخلين بذلك عن ماركس - الذي أثبت عدم رشاد السوق من وجهة نظر تحرير العاملين والشعوب - باعتبار أن فكره "قد عفا عليه الزمن".

إنهم يعتقدون بمرونة الرأسمالية، وأنها تتكيف مع متطلبات التقدم التكنولوجي (وحتى الاجتماعي إذا فُرض عليها ذلك).

واقتصاديو "اليسار" هؤلاء لم يكونوا على استعداد لفهم أن الأزمة التي انفجرت كانت حتمية، وهم أقل استعداداً لمواجهة التحديات التي تواجه الشعوب بسبب هذه الأزمة.

ومثل بقية الاقتصاديين الشائعين، يعملون على تخفيف حدة الأضرار، دون أن يفهموا أنه لتحقيق ذلك يجب إتباع طريق آخر، وهو تجاوز المنطق الأساسي للرأسمالية.

وبدلاً من محاولة الخروج من الرأسمالية المتأزمة، يتصورون أنه من الممكن الخروج من أزمة الرأسمالية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال