الأدب من "كتابة المغامرة" إلى "مغامرة الكتابة".. قضايا الكتابة التي يعالجها الأدب أصبحت في النصوص الحديثة تناظرا مهيمنا

من مظاهر الحداثة الأدبية في السياق الغربي عموما، وفي فرنسا على وجه الخصوص، ظهور ما يسمى بموجة الرواية الجديدة التي جاءت بأساليب فنية وطرق سردية جديدة أعلنت، من خلالها، قطيعتها مع التقليد السائد في الرواية الكلاسيكية.

وقد أفلح جان ريكاردو، أحد أقطاب هذه الموجة الروائية، في اختيار الصيغة الملائمة للتعبير عن هذا التحول، حين قال إن الرواية الجديدة ليست "كتابة مغامرة" وإنما هي "مغامرة كتابة ".

وقد قصد بذلك أن الرهان الجديد للرواية ليس هو سرد المغامرات والحكايات، وإنما هو الاشتغال على الأداة الأساسية التي هي اللغة.

ويبدو أن هذا الرهان المتمثل في الانشغال بقضايا الكتابة لم يقتصر على الرواية وحدها، بل أصبح هاجس الأدباء المعاصرين عموما في الشعر وفي المسرح أيضا.

ولعل هذا ما جعل أحد الدارسين يرى (أن قضايا الكتابة التي يعالجها "الأدب" أصبحت في النصوص "الحديثة" تناظرا مهيمنا) Isotopie dominante (1).

إن اختيار كلمة "تناظر" للتعبير عن هذه الظاهرة يؤكد، بشكل جلي، مدى الحضور المتواتر والمتكرر لهواجس الكتابة داخل النص الحديث لاسيما وأن  التناظـر كما يعرفه  كريماس - هو: "مجموعة اعتباطية من الخصائص الدلالية التي تسمح بالقراءة الموحدة للمحكي"(2).

إن النص الحديث لم يعد ينتظر من النقد أن يكون مرآته التي ينظر من خلالها إلى نفسه، لأنه أصبح يخلق مراياه الخاصة بداخله.

لقد تحول، بالتالي، هذا النص إلى مرآة مقعرة أو بالأحرى إلى "زجاج غير مرصص Glace sans Tain" حسب التعبير الاستعاري لكلود أباسطادو.

وإذا كانت هذه الاستعارة توحي بأن النص لم يعد يعكس شيئا في حقيقة الأمر، مما يجعلنا نفترض أن ظاهرة الاهتمام بمغامرة الكتابة ظاهرة غير إيجابية، فإن العكس هو ما يعبر عنه البعض حين يرى في لحظة مزاولة النص للتفكير النقدي والنظري "أخصب لحظة، حيث تتخلل الإنتاج النصي تأملات نقدية فتصبح الكتابة قراءة للكتابة، والممارسة تنظيرا للممارسة"(3).

إن التحول الذي عرفه الأدب الحديث من كتابة المغامرة إلى مغامرة الكتابة، نتج عنه تحول في طبيعة الممارسة النقدية نفسها.

فإذا كان الإبداع قد سمح لنفسه باختراق عالم النقد إلى حد الاحتواء والامتصاص، فإن النقد، بالمقابل، عرف كيف يخرج من قوقعته ويحطم سياج العلمية والصرامة ليصبح بدوره إبداعا قابلا للقراءة بالشكل الذي تقرأ به الآثار الأدبية.

إن النقد تحول - في هذا السياق الجديد - إلى كتابة. ولعل هذا ما يشير إليه رولان بارث في "النقد والحقيقة" حين يقول: "الكاتب هو من يكون القول بالنسبة له معضلة، إنه يختبر عمق القول لا أداتيته أو جماله.

وإذن، فقد ولدت كتب نقدية تقدم نفسها للقراءة بحسب نفس الطرق المتبعة في قراءة الأثر الأدبي ذاته، مع أن كتابها لا يعتبرون، بحسب وضعيتهم، سوى نقاد لا كتاب، فإن كان للنقد الجديد حقيقة ما فهي تكمن هنا: ليس في وحدة مناهجه، ولا في نزعة التباهي التي تدعمه - كما يقول البعض - وإنما في عزلة فعل النقد الذي يترسخ من الآن فصاعدا، بعيدا عن تعلة العلم والمؤسسات، باعتباره فعل كتابة مكتملة بذاتها"(4).

إن هـذا الاختـراق المتبـادل بيـن الإبـداع والنقـد يعـد عنوانا للحداثة الأدبيـة والنقدية لاسيما وأنه يعيد النظر، بشكل واضح، في نظرية الأجناس المنحدرة من الفكر الكلاسيكي الذي جعل من النظرية الأرسطية مذهبا أو عقيدة Doxa وليس تصورا جماليا قابلا للتجاوز والاختراق.

في ضوء هذا التحول، ينبغي النظر إلى الميتانصية كمظهر أدبي عام وإلى المتياشعر والميتارواية والميتامسرح كتجليات نوعية لهذا المظهر.

(1)- Claude Abastado- La glace sans Tain - Littérature N° 27 - p.55.
(2)- A.J. Greimas - Du  Sens - seuil 1970 - p.188.
(3)- رشيد بنحدو ـ حين تفكر الرواية في الروائي ـ الفكر العربي المعاصر ـ عدد 66/ 67 ـ يوليوز/ غشت 1989 ـ ص.31.
(4)- رولان بارث ـ النقد والحقيقة ـ ترجمة إبراهيم الخطيب ـ مراجعة محمد برادة ـ الشركة المغربية للناشرين المتحدين 1985 ـ ص.50/51.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال