لم تبدأ المدرسة المقارنة الجديدة بصورة فعلية بعد سقوط الستالينية، أي في أواسط الخمسينيات، بل تواجد ممثلوها في الجامعات الروسية والأوروبية الشرقية، وقاموا بأبحاثهم ودراساتهم المقارنة قبل ذلك بوقت طويل.
فالروسي فيكتور جيرومونسكي، وهو أبرز ممثلي هذه المدرسة، قد أجرى دراساته المقارنة حول "الملاحم البطولية الشعبية" في الثلاثينيات والأربعينيات.
وهو لم ينحُ في أبحاثه منحى دراسات التأثير والتأثر الفرنسية، بل نحا منحى آخر ينسجم مع جوهر الفلسفة الماركسية ونظرية الأدب المادية الجدلية، التي تعدّ مقولة الارتباط الجدلي بين الأدب والمجتمع أبرز مقولاتها.
فهو لم يرجع ظواهر التشابه بين الآداب المختلفة إلى عوامل التأثير والتأثر، وذلك لسبب بسيط، هو أنّ القسم الأعظم من تلك الظواهر لاعلاقة له بالتأثير والتأثر.
فمن الملاحظ وجود تشابه بين ظواهر أدبية في آداب لم تقم بينها علاقات تأثير وتأثر، وذلك نتيجة التباعد الجغرافي والحواجز اللغوية والعزلة الثقافية وما إلى ذلك من أسباب. لم يكن ذلك الأمر غائباً عن أذهان ممثلي المدرسة التقليدية في الأدب المقارن، بل كانوا يعرفونه تماماً، ولكنهم أشاحوا وجوههم عنه، بحجة أنه لايدخل في اهتمامات الأدب المقارن، ولا مبرر لدراسته، تماماً كما ليس هناك مسوغ لأن "يقارن المرء حشرة بزهرة".
أمّا فيكتور جيرمونسكي فقد استوقفته تلك الظواهر، فدرسها وحاول أن يجد تفسيراً لها.
وما دامت زاوية التأثير والتأثر لا تقدم أيّ شيء على هذا الصعيد، فإنه لابدّ من البحث عن منهج أو منطلق نظري جديد لتفسيرها.
ذلك المنطلق هو المقولة الرئيسة لنظرية الأدب الماركسية التي ترى أنّ هناك علاقة جدلية بين الظواهر الأدبية وبين البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع.
ومن وحي تلك المقولة وضع جيرمونسكي نظرية "التشابه النمطي" أو "التيبولوجي".
فهناك من التشابه بين الآداب مالا يمكن ردّه إلى عوامل التأثير والتأثر، ولكن يمكن إرجاعه إلى مستويات تطوّر المجتمعات.
فالمجتمعات التي بلغت بناها الاجتماعية مستويات متشابهة من التطور تتشابه أيضاً في بناها الأدبية.
أمّا المجتمعات التي تتفاوت درجات تطورها فإنّ بناها الأدبية تتفاوت أيضاً.
لقد لاحظ فيكتور جيرمونسكي من دراسته للملاحم البطولية الشعبية أنّ تلك الملاحم قد ظهرت في مجتمعات مختلفة، دون أن يكون هناك مايشير إلى أنّ ذلك قد تمّ بفعل علاقات التأثير والتأثر.
فقد ظهرت تلك الملاحم في مجتمعات لم تقم بينها علاقات تبادل ثقافي أو أدبي، ولكن على الرغم من ذلك فإنّ من الملاحظ وجود أوجه تشابه كبير بين تلك الملاحم.
وبما أنّ هذا النوع من التشابه لايمكن أن يرد إلى علاقات التأثير والتأثر، فقد سماه جيرمونسكي "تشابهاً نمطياً أو تيبولوجياً".
إن الاختلاف في توقيت ظهورها لايمكن أن يفسر إلا باختلاف درجات التطور الاجتماعي.
فعندما ظهرت تلك الملاحم في الأدب اليوناني القديم، لم تكن المجتمعات الأخرى، كالمجتمع العربي مثلاً، مهيّأة لظهورها.
وعندما أفل نجم هذا النوع الأدبي في الأدب الإغريقي، نشأ وازدهر في بعض الآداب الآسيوية التي لم تقم بينها وبين الأدب اليوناني أية صلات تاريخية، وهذا مامكّن جيرمونسكي من أن يُرجع هذه الظاهرة إلى كون تلك المجتمعات قد بلغت مرحلة من التطور الاجتماعي جعلت ظهور أدب الملاحم البطولية فيها أمراً ممكناً.
التسميات
أدب مقارن