التربية والرقابة الذاتية ومتابعة سلوك المتربين للارتقاء به ومعالجة الظواهر السيئة

يهتم كثير من المربين بمتابعة سلوك المتربي وملاحظة التغير الذي يطرأ عليه، والارتقاء به ومعالجة الظواهر السيئة والسعي في وضع حمايات تقيه بعض المخاطر، وهذا الفعل حسن لا غبار عليه بل هو المطلوب، لكن حين يسير في وضعيته الصحيحة التي تُصلح ولا تُفسد.

ولكننا أحياناً كثيرة نغفل عن غرس الرقابة الذاتية في نفس المتربي، والتي بدورها تساعد في تعميق التربية بشكل أقوى فتكون أدعى للثبات، وتمنحنا شيئاً من الوقت يمكن صرفه لآخرين ابتغاء توسيع العمل.

ـ لست أهوّن من المتابعة، بل هي جانب مهم في نجاح العملية التربوية، ولكني أقول إنه لا بد من بذل جهد قوي وكبير في سبيل تقوية الحصون الداخلية لدى المتربي؛ حتى يشعر دائماً برقابة الله له وقربه منه واطلاعه عليه، فيشعر بالمسؤولية تجاه نفسه، بضرورة لزوم الصدق مع الله ومع النفس؛ فكم نحن بحاجة إلى أن نعيد قراءة قصة يوسف مع امرأة العزيز يوم واجه الإغراء بقول (معاذ الله!!)، وقصة الراعي مع ابن عمر - رضي الله عنه - حين أعلنها الراعي مدوية تنساب في أودية مكة (فأين الله؟)، وكذا قصة المرأة الأعرابية يوم صرخت بصوت جلجل في الأفق (فأين مُكَوْكِبُها؟)، وغير ذلك كثير مما جاء عن السلف الصالح ومن بعدهم.

ـ لا بد أن يرسخ عند المتربي الشعور بالمسؤولية تجاه نفسه، وأنه هو المطالب بتزكيتها وتكميلها، وأن دور المربي معه ما هو إلا إعانة له على تزكيته هو لنفسه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95].

إن ضمور هذا المعنى في النفوس - الرقابة الذاتية - أحدث ضعفاً واضحاً في صفوف المتربين من خلال التقصير في بعض الواجبات ـ كالصلاة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام - أو الوقوع في شيء من المحرمات - كإطلاق البصر واللسان، وما يجري بعده من ويلات.. ـ كل ذلك يحصل نتاج ضعف المراقبة في النفوس.

- لقد فهم السلف هذا المعنى، ونادوا بإصلاح النفس ومحاسبتها والقيام عليها بالمتابعة والرقابة؛ فهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا..»، ويقول الحسن البصري - رحمه الله -: «المؤمن قوَّام على نفسه يحاسبها لله»، وهذا ابن القيم ـ رحمه الله ـ يحذر من إهمال النفس وعدم القيام عليها فيقول: (أضر ما على المكلف الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، وإذا فعل ذلك سَهُل عليه مواقعة الذنوب، وأنس بها، وعسر عليه فطامها.. إلخ).

إن تنمية الشعور بالمسؤولية تجاه النفس والرقابة الذاتية عليها ومحاسبتها؛ سيساعدنا كثيراً في التربية، ويجعلنا نجني نتائج أفضل، ونحس بنوع من الأمن تجاه المتربي.

- وعلى المربي وهو يغرس الرقابة الذاتية في نفس المتربي؛ أن يعلم أنها لا تنمو إلا على قسط من الحرية وترك الفرصة للاختيار، ولا بد من غرس نوع من الثقة في نفس المتربي، فالتنقيب عن أخطائه وتتبع عوراته والبحث عن سقطاته والسير معه بنظام الجاسوسية؛ كفيل بإفساد النتائج على عكس ما يراد لها من صلاح، وفي حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم».

إنه ليس من أحد إلا لديه عيوب ونقائص، وحين نتوجه للبحث عن الخبايا وكشف المستور؛ فإننا نساهم ـ شعرنا أو لم نشعر ـ في إعطاء الجرأة للمخطئ في التبجح بالخطأ وإظهاره دونما استحياء، حيث يحس أن أوراقه قد احترقت فلا يبالي بما صنع، بل يصل الحال أحياناً عند بعضهم إلى قصد المخالفة والعناد، وبهذا يخرج من حيز المعافاة ويعم الضرر به من بعد ما كان الأمر مقصوراً على المخطئ ذاته.. «كل أمتي معافى إلا المجاهرين».

إن أحداً منا لو سُلطت عليه الأضواء لنكشف منه ألف عيبٍ وعيبٍ؛ لذا ينبغي على المربي أن يعلم أنه يربي بشراً من عادته الخطأ والتقصير؛ فالمرء لا يولَد كاملاً بل يتطور ويرتقي ويكتسب الكمالات شيئاً فشيئاً، (إننا حين نرسم للناس صورة مثالية فسوف نحاسبهم على ضوئها، فنرى أن النقص عنها يُعَدُّ قصوراً في تربيتهم، فتأخذ مساحة الأخطاء أكثر من مداها الطبيعي الواقعي.

وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أنهم لن يصلوا إلى منزلة لا يواقعون فيها ذنباً، فقال: «والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم»، ولما أفشت حفصة - رضي الله عنها - ما أسرَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- لها أطلعه الله على ذلك فلم يُفِضَ في المناقشة أو يستقصي، بل كان -صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى -: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]، كل ذلك كرماً منه -صلى الله عليه وسلم- وحسن إدارة ورعاية، قال الحسن: «ما استقصى كريم قط»، وقال سفيان الثوري: «ما زال التغافل من شيم الكرام».
ليس الغبي بسيدٍ في قومه
لكنَّ سيد قومه المتغابي

وحين ندعو إلى نوع من الإغضاء فلسنا نريد الإهمال، وترك الحبل علـى الغـارب، والانقـطاع عـن المتابعة.. كلا.. بل إن «.. الشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية ولو كان فيه كل جميلٍ من الخصال !...».
أحدث أقدم

نموذج الاتصال